

د. عـابـد فرحـان العبيــد
مشرف ومنسق مشاريع التخرج في قسم الفنون التشكيلية – الكلية العلمية للتصميم
الفنون البصرية بمفهومها الشامل هي الوسيلة الأقدم لتوثيق حضارات الشعوب وتاريخ الأُمَم، وقد أسهمت بشكلٍ كبير في توصيف التجارب الإنسانية وَفَهْمِ التغيرات الطارئة في جميع المجتمعات عبر العصور، أمَّا اليوم فإن الفنون البصرية -وخاصةً الرسم والنحت- تلعب دورًا مهمًّا في حياة الفرد والمجتمع، وتُؤَثر -بشكلٍ مباشر- على جميع تفاصيل حياتهم اليومية؛ فهي الوسيلة للتعبير عن الفكر والرأي وتجسيد وجهات النظر في مختلف القضايا الاجتماعية المُعاصرة، لا سِيَّما المساهمة الفعَّالة والتأثير الإيجابي على المكان والبيئة بشكلهما العام، وهذا بسبب خضوع الرسم والنحت للعديد من التجارب والخبرات الفنية، التي كَوَّنَت مختلف المدارس الفنية بحميع أنواعها؛ لِتُشَكِّل إرثًا وموسوعةً فنيةً علمية ذات قوانين وقواعد وأُسُس يُبْنى عليها العمل الفني.
وفي هذا السياق، هناك الكثير من المؤسسات التعليمية المتخصصة في تقديم الفن التشكيلي كمادةٍ علمية تُكْتَسَب وتُدَرَّس لصقل الموهبة التي هي حَجَر الأساس للفنان التشكيلي، بالإضافة إلى توفير البيئة المناسبة والمصادر النافعة والإشراف والإرشاد الصحيحيْن. ومن بين هذه المؤسسات المهمة التي يَجدُر بي ذكرها هي الكلية العلمية للتصميم في سلطنة عُمان، استنادًا إلى تجربتي العملية كأستاذ ومنسق لمواد الرسم ومشاريع التخرج في قسم الفنون التشكيلية.
إن تخصص الفنون التشكيلية في الكلية العلمية للتصميم يسعى بشكلٍ دائمٍ إلى توفير البيئة المناسبة والمُلهِمَة للفنان المُبتدئ، من خلال جودة المرافق والقاعات التي تُسهِم بشكلٍ إيجابي في عملية التعلم، لا سِيَّما إقامة المعارض الفنية لفنانين عالميين وعُمانيين، والأنشطة الفنية المُكَثفة، مثل جلسات حوارية حول النقد الفني والورش الفنية المتنوعة، التي تحرص الكلية على إقامتها بشكلٍ دوري؛ لِجَعْل الطالب في ارتباطٍ مباشرٍ ومستمر مع البيئة الفنية، واكتساب المعرفة والخبرة من تجارب ذوي الاختصاص، وتُعتبر إضافةً مهمة لتأسيس الشخصية الفنية للطالب خارج إطار المنهج الأكاديمي في القاعات الدراسية، أو في الاستوديوهات الفنية. إنَّ الجدير بالذكر أنَّ الطالب خلال الفصول الأولى يعني بالتركيز على دراسة عناصر وأسس الفن والتصميم وممارسة استخدام مختلف الخامات والتقنيات الفنية عمليًّا كأدواتٍ أساسية، ويتعمق -أيضًا- بشكلٍ تدريجي على فَهْمِ ومعرفة المدارس الفنية، وأساليبها المتنوعة.
بعد تأسيس الطالب بالمعرفة النظرية والعملية والمهارة الفنية اللازمة -أي في المراحل الأولى والمتوسطة-، يبدأ الطالب بدراسة الأسلوب الواقعي وَرَسْمِ أعمالٍ فنية بموضوعات مختلفة، كرسم الطبيعة الصامتة، والمناظر الطبيعية، ورسم البورتريه، وإنتاج أعمال فنية مدروسة أكاديميًّا من الناحية الفنية، كدراسة التكوين، ودراسة المنظور والتقنيات المختلفة والدراسات اللونية، وغيرها من العناصر المهمة في العمل الفني، بالإضافة إلى الاهتمام الكبير الذي يحظى به الطالب في الجانب الإبداعي والخيالي، من خلال اطلاعه وممارسته لنظريات الفكر الإبداعي، أما في المراحل الأخيرة يَتَعَيَّن على الطالب إنتاج عملٍ فني، معتمدًا على تجربته الفنية، لا سِيَّما أن للطالب حرية اختيار موضوع مشروعه النهائي، والخامات المستخدمة، والأسلوب الفني الذي يرغب به، وتكون جميع هذه المشاريع تحت إشراف أستاذ متخصص، وتمر بمراحل وخطوات تدريجية، بدءًا من العصف الذهني، وجمع المصادر البصرية، وخلق التكوين وحوارات نقدية مع بعض الأساتذة المتخصصين، بالإضافة إلى تجارب عملية، تُوصِلُ الطالب إلى إنتاج عملٍ فني، يرقى إلى المنافسة في سوق العمل.
وهنا لَعَلِّي أعرِضُ جزءًا من تجارب بعض المشاريع النهائية لطلاب الفنون التشكيلية، وعلى سبيل المثال وليس الحصر: الطالب علي بن حسين ابن سليمان الحمداني (تخصص فنون تشكيلية)، تتميز شخصيته الفنية بالتأثر الكبير بالهُوِيَّة الثقافية العُمانية، وقربه الشديد من كل ما يَمُتُّ للأصالة الفكرية والمنشأ، فكان هذا الشغف يَحُثه على البحث بشكلٍ أعمق في الأساليب الفنية المعاصرة؛ لطرح فكره الثقافي المتجذر، بدءًا في اختيار العناصر المناسبة، من ثم دراسة التكوين، كما هو في (الشكل1).
فبدأ الاطلاع أكثر على تجارب كثيرٍ من الفنانين، والقيام بتجارب شخصيةٍ عديدة، باستخدام خامات متنوعة وغير تقليدية، تتناسب مغ فكرة العمل، وتساهم في طرح الفكرة بشكلٍ مختلف. استخدم الطالب علي الحمداني ألوان الأكريليك مع الحِبْر والفَحْم في تجاربه الفنية؛ كدراسات للتعرف على الخامات والتأثيرات الفنية، وكان اختياره لهذه الخامات بسبب تأثره بالأسلوب الفني لأستاذه المشرف على مشروعه النهائي؛ وهو مُعِدُّ التقرير الفنان التشكيلي العراقي الدكتور عابد العبيد، وأيضًا بسبب نقاء وأصالة خامات الحِبْر والفَحْم معًا، مِمَّا يُجَسِّدُ عُنصرًا مُهِمًّا للتعبير عن موضوع العمل الفني المطروح. (الشكل2).
وبعد استكشاف أسرار مزج هذه الخامات الثلاث، ومعرفة التأثيرات الناتجة عن هذا المزج، بدأ الطالب علي الحمداني بإنشاء العمل على الكانفاس، والشروع بالتنفيذ، مع الاستشارة المستمرة والنقاش مع أستاذه المشرف ومع الأساتذة الآخرين وزملائه في التخصص (الشكل 3).
العمل الفني للطالب على الحمداني بعنوان (بَحَّارة عُمان العظماء) بِعَرْضِ 360 سنتمترًا، وارتفاع 100 سنتمتر؛ باستخدام ألوان الأكريليك والحِبْر والفَحْم على الكانفاس. يُجسِّد هذا العمل الفني حالة الكفاح والمثابرة للبَحَّارة العُمانيين منذ قديم الزمان، ويرمز إلى ارتباطهم العميق بالبحر وتراثهم البحري الغني. تُصَوِّرُ اللوحة رجالًا يسحبون سفينة وهم يرتدون شيئا من عناصر الزي التقليدي العُماني؛ لتكون بمنزلة استعارة لاستمرارية الحضارة العُمانية من العصور القديمة إلى يومنا هذا. لا يُسَلِّطُ هذا السرد البصري الضوء على مرونة البحارة فحسب، بل يعكس -أيضًا- الرحلة التاريخية والثقافية الأوسع لعُمان، مُؤكدًا على الخيط المستمر للتقاليد البحرية التي تربط الماضي بالحاضر. تضيف الشخصيات القوية في اللوحة والحركة الديناميكية في تكوين هذا العمل الفني شعورًا بالتحمل والتعاون والجهد الجماعي، مما يؤكد على أهمية البحر في تشكيل الهُوِيَّة والتاريخ العُماني، لا سِيَّما التأثيرات الفنية التي أَضْفَت للوحة روحَ المشهد الفني، وإحساسه.
أما الطالبة شاهيناز بنت راشد الطويرشية فقد عملت على تجسيد حفلٍ اجتماعي من التراث العُماني، وهو مشهد للرزحة في بيئة طبيعية نابضة بالحياة، حيث يتم تقديم التفاصيل من خلال كُتَلٍ لونيةٍ متقاربة، تمثل الظل والضوء، وقد بدأ العمل بجمع المصادر البصرية أولًا، ثم رسم الكثير من الدراسات للتكوين والتجارب؛ لاستخراج التأثيرات اللونية المناسبة (الشكل 4).
هذه التجارب تمثل جزءًا مهمًّا من المراحل الأولى في إخراج العمل الفني، وخَلْقِ تَصَوُّرٍ أولي لعناصر العمل والتكوين، وبناءً أساسيًّا لإتمام العمل بصورةٍ أكاديميةٍ صحيحة. يعكس هذا العمل الفني تفاعلًا فريدًا بين الفن التقليدي والتقنيات الحديثة؛ حيث استخدمت شاهيناز بعض الأدوات التكنولوجية الحديثة؛ لتسهيل الدراسة اللونية والتأثيرات المصاحبة للحركة، مما يجعل العمل الفني مُمَيزًا وجذَّابًا لأولئك الذين يستمتعون باستكشاف أشكال وأساليب جديدة من التعبير الفني. الرزحة هي واحدة من أقْدَمِ وأشْهَرِ الفنون التقليدية في عُمان، وتنتمي إلى عالم الموسيقى، ويتم أداؤها في مناسبات الفرح، مثل حفلات الزفاف والأعياد التقليدية (الشكل 5).
استخــــدمت شاهينــــــــاز الطويرشية الألــــــوان الزيتية على الكانفـــــاس؛ بسبب مُمَيزات هذه الخامــــــة، وما تتمتـــــــع به خاصــــةً في المرونة في استخراج درجات اللون المطلوب، مما يُعزِّز من عُمقِ اللوحة وحيويتها، ويخلق تجربةً بصريةً مُلْهِمَة للمُشـــاهد. حجــــــم العمــــــــل الفني 150 سنتمترًا عرض، في 120 سنتمترًا ارتفاع. تُظْهِرُ في الخلفية مشهدًا لمجموعة من المباني القديمة بتصميماتها المميزة. قد تُمَثِّلُ هذه المباني أطلال مدينةٍ قديمة، أو موقعًا أثريًا، يَعكِسُ تاريخًا غنيًا وثقافةً متنوعة، وتأتي عنصرًا مُهِمًّا ومتناغمًا مع موضوع العمل الفني؛ حيث تجمع بين جماليات الفن الحديث وروعة التاريخ القديم. تتكون اللوحة بأسلوب هندسي دقيق، مما يُعطي العمل تأثيرًا بصريًا مُميزًا وفريدًا.
تتنوع اتجاهات الطلاب في اختيار أساليب وخامات مشاريعهم الفنية النهائية، بحسب إمكانياتهم الفنية في توظيف الأدوات المستخدمة للتعبير عن أفكارهم وإحساسهم الفني، ففي مجال النحت اختارت الطالبة روان بنت علي الفزارية خاماتٍ متنوعة؛ لإنتاج عَمَلٍ نَحْتِي ثلاثي الأبعاد، يعكس الرحلة المؤلمة، والمعاناة العميقة للهجرة القسرية، والحالة التي يعيشها الأفراد الذين أُجبِروا على تَرْكِ منازلهم وأوطانهم؛ بسبب الصراعات أو الاضطهاد أو الكوارث الطبيعية. ويُجَسِّدُ العمل موضوع الخسارة والسعي إلى بدايةٍ جديدة. بدأت روان بدراسة الموضوع بسياقه الشامل، وَجَمْعِ مصادر مقروءة وبصرية لِفَهْمِ الحالة الإنسانية والنفسية للعناصر الرئيسية للعمل، من ثم البدء في دراساتٍ أولية وتجارب لتشكيل وتركيب العناصر، بتكوينٍ مُعَبِّر يساعد على إيصال رسالة ومحتوى العمل الفني (الشكل 6).
إن التجارب الفنية الأولية تُسْهِمُ بشكلٍ فَعَّالٍ في تطوير الفكرة، وتساعد في تحسين الرؤية الفنية في المراحل المتقدمة، وتُعطي اقتراحات وحلول للمشاكل الرئيسة في العمل الفني.
يَضُمُّ العمل الفني مجموعةً من ثلاثة تماثيل بحجم 58 , 57 , 65، مصنوعةً من خاماتٍ متنوعة، مثل الحديد والخشب والأسمنت الأبيض. يُمَثِّلُ كل تمثالٍ مرحلةً مختلفة من الرحلة، وجوانب مختلفة من المعاناة، واستخدمت روان نظرية المبالغة في تشكيل نسب أجساد الشخصيات الرئيسة الثلاث، مثل تقليص حجم الرؤوس، وطول حجم الأقدام، وارتدائهم للأقمشة البالية، بالإضافة إلى حَمْلِ قِطَعٍ من الأخشاب التي تمثل حالة من البؤس والألم الشديديْن، وكأنهم يحلون همومهم وأحزانهم أثناء هذه الرحلة الشاقة، وأيضًا تشكيل القارب الخشبي الذي يوحي إلى التابوت، بوصفه رمزًا للمعاناة والموت (الشكل 7).
ففي سياق فن النحت -أيضًا- قدمت الطالبة شَهْد بنت سالم اليحمدية عملًا نحتيًّا معاصرًا، مُسْتَوْحى من البيئة العُمانية والتراث العُماني الأصيل، باستخدام الخشب كعنصرٍ رئيسيٍ في حياة الفرد العُماني في العصور القديمة، بداية من إشعال النيران وصناعة النوافذ والأبواب وصناعة السفن وغيرها من الاستخدامات؛ وذلك لوفرة الأشجار في سلطنة عُمان وتنوعها، قامت شَهْد اليحمدية بعمل سلسلة من التجارب لدراسة التكوين كما هو في (الشكل 8).
بعد العديد من التجارب والحوارات النقدية الهادفة لتطوير الفكرة وآلية التعبير عنها مع الأستاذ المشرف، توصلت شَهْد اليحمدية إلى التكوين النهائي بالمستوى المنشود؛ من خلال توظيف العديد من الرمزيات الفنية، مثل الخشب بزاوية عمودية رمزًا للثبات والأصالة وقوة الشخصية العُمانية المتشبعة بالإرث، وإضفاء عناصر تجميلية مُستَمَدَّة من نقوش وزخارف الأبواب والنوافذ العُمانية، والحُلِيّ النسائية، والكُمَّة العُمانية، وَجَمْع كل هذه العناصر وإحاطتها بدائرة معدنية، ترمز إلى الوطن والمجتمع العُماني ووحدته وترابطه، مع حضور بعض الطيور الجميلة باللون الأبيض رمزًا للأمل والحياة والمستقبل المُشرِق (الشكل 9).
Related Posts