د. أحمد بن سالم الخروصي
كثيرًا ما يكف البيان، وتقف سلكة القلم حيرى أمام مشهد الكتابة عن الأعلام، خاصةً إذا ما كانت السجايا تعدو على الأوصاف، فتجعلها صرعى أمام جميل الزوايا، الشيخ الأجل “غزير المناهل، كريم الشمائل، عظيم الفضائل والفواضل، الأديب البارع” مهنا بن خلفان بن عثمان ابن خميس بن الشيخ الرئيس جاعد بن خميس الخروصي الذي عاش بين عاميْ (1356هـ-1937م) و(1444هـ-2023م)؛ انتقالًا إلى الرفيق الأعلى.
وخلال عمره الممتد تلقّى التعليم عند جُملةٍ من أعلام عُمان الأكابر، ابتداءً بوالده خلفان بن عثمان بن خميس، ووصولًا لجده سالم بن سيف اللمكي، ثم تَلَقِّيًا من مَعين الشيخ الزاهد سالم بن ماجد الخروصي، الذي طالما سمعته يثني عليه وعلى فضله عليه، وكانت صلاته بجُملةٍ من الأساطين الكبار ممتدة -علمًا وفضلًا وخُلقًا-.
اتصل كثيرًا بالشيخ العلامة الفقيد سالم بن حمد الحارثي، وقد جمعت بينهما قواسم كثيرة، وقد شَهِدْتُ -ولله الحمد- شيئًا من تلك العهود التي تزينت بجميل الفضائل وكريم الفواضل، كما أن جسور الأُخُوَّة ورابطة العِلْمِ جعلت من صِلَتِه بالعلامة بدر الدين أحمد بن حمد الخليلي -متعه المولى بالصحة وجميل السجايا والعافية- ذا طابعٍ متميز؛ فلا تَمُرُّ مدة وجيزة إلا ونجد الشيخ الخليلي يتفضل بزيارةٍ سامية عليا للشيخ مهنا، ومن عجيب ما سمعته من شيخنا الخليلي -حفظه الله- تذكيره للشيخ مهنا بأول لقاءٍ جمعهما عام 1384هـ؛ إبَّان مَقْدَمِ الشيخ الخليلي من زنجبار، وقد ذكره الشيخ بالشهر واليوم.
اعتنى شيخنا الراحل بجَمْعٍ لفيفٍ كبيرٍ من مخطوطات جده العلامة أبي نبهان وأبنائه، فكانت مكتبته عامرة بشتيت المخطوطات وصنوف العُنوانات الميزة في أبواب الشريعة واللغة والسلوك، وقد وقفتُ في مكتبته على نوادر لم أجدها في أي مكتبة أخرى، فضلًا عن الأصول الخطية التي كتبها الشيخ الرئيس أبو نبهان نفسه، أو ابنه ناصر بن أبي نبهان، ولعلي أسوقُ هنا بعضًا من تلك الدرر النفيسة والجواهر المكنونة، فمن ذلك:
- موسوعة الأجوبة الفقهية لأبي نبهان، وهي تضم جُملةَ أجزاءٍ، وقفتُ على مجموعةٍ منها تربو على الخمسة في مكتبة الشيخ الراحل.
- رسائل فقهية في أبواب مخصوصة، من مثل: رسالة في عويص الوصايا، وقد وقفتُ على أكثر من نسخةٍ منها بخط أبي نبهان في مكتبة الشيخ مهنا.
- كتاب “لطائف المنن في أحكام السُّنَن” لابن أبي نبهان بخط مُؤلفِهِ، بعد أن كانت نسخة يتيمة منه بخط ناسخ متأخر عن المؤلف.
- جُملةٌ غير قليلة من الكتب التي اقتناها أبو نبهان نفسه، فغدت من أملاكه الخاصة، وقد وضع عليها توقيعه في المطالع أو الخواتيم.
فضلًا عن الوثائق والمراسلات التي تزدان بها مكتبة الراحل، مما يجعل مكتبته مَوْرِدًا عذبًا للبحَّاثة، ومصدرًا أصيلًا لتراث أبي نبهان وأُسرته العريقة.
آثاره العلمية ومؤلفاته:
ترك الشيخ الفقيد جملة من الآثار العلمية منوّعة بين تأليف وتحقيق وتهذيب، فمن بين تحقيقاته الكثيرة:
- عنايته بجملةٍ من أجزاء “لباب الآثار” للشيخ الصائغي.
- تحقيقه لــ “ديوان الفزاري”.
- تحقيقه لـ “كتاب الدهمزاج” للشيخ الكندي.
- تحقيقه لـ “رسالة أبي نبهان” للسّيّد محمد بن أحمد بن سعيد البوسعيدي.
- فضلًا عن تحقيقه النفيس لـ “ديوان الجد أبي نبهان نفائس العقيان”.
أما مؤلفاته:
- فهو صاحب “النجوم الزاهرة في الأفلاك الدائرة”.
- وصاحـب “أســــــــــرار الحـــــــروف وأسمــــــــــاء الله الحســـــــــنى”.
وقد أَطْلَعَني في أواخر عمره على مجموعٍ ضمَّ جملة من المقالات والرسائل والخُطَب والمقامات الأدبية التي كَتَبَها، فقد ضمَّها جميعًا في مجموعٍ واحد، وللشيخ مهنا عناية بارزة بالشِّعر المدوَّر والمُرمّز، حيث كَتَبَ جُملةً من المدائحِ والمراثي بطريق مزخرف يُقرأ مُدوّرًا بطريقةٍ مُحْكَمَة البناء، وهو بهذا يقتفي نَهْجَ جُملةٍ من المتقدمين ممن اعتنى بهذا النوع من الترميز الشِّعري.
كما أن للشيخ عناية كبيرة بالأذكار والأوراد الربانية آخذًا مشكاتها من صحيح الآثار وعظيم التوجيهات القرآنية.
رثاه بعض الكُتَّاب والأُدباء المُبَرِّزين، منهم الدكتور محمد بن سالم بن عبدالله الحارثي – مدير تحرير مجلة “الثقافية”، يقول في قصيدةٍ مُطَولة، عنون لها بـ “نفثة الأحزان في رثاء الشيخ مهنا بن خلفان بن عثمان” أولها:
المجد غُودر والتاريخ في “سُونـي” والنَّاسُ ما بين مأسوف ومحْـزونِ
والموت يعْقدُ راياتٍ وألْوِيَـــــــــــــةً ونحن في غفلة عنه وفي هـــــــــونِ
كيف السُّلوُّ بعمْرٍ لا بقاء لــــــــــــه ومركب العيش فيه غير مأمـــونِ
لا يصْحب الدهرَ تيّاهٌ يُغَرُّ بــــــــــهِ إلا رماهُ القضا بالنَّقْص والــــــدُّونِ
وفيها:
على المهنا بن خلفان جرَتْ مُقَلِي والدَّمْعُ أصْدق في بَوْحٍ لمشْجُــونِ
على الْمُقَدَّمِ في علْمٍ وفي عَمَــــــــلٍ على المسدَّدِ في بحثٍ وتدْويـــــــنِ
على كريم المساعى ذي ندًى وهُدًى وبُعْدِ رأيٍ وعزْمٍ غير مَوْهُـــونِ
على عميد “العوابي” مَنْ له قَــــدَرٌ في النَّاس مُعْتَبرٌ يجْري كقانــــونِ
إلى أن قال:
للهِ أنتَ فتى خلفان كَمْ فِكَــــــرٍ بثَثْتَها وخَفِيَّاتٍ لمأمُــــــــــــــــــــــونِ
وكم نشَرْتَ مِنَ الآثار مجتهدًا وكم رفَعْتَ بنودَ العِلْمِ والدِّيـــــــــنِ
هذه لمحات يسيرة عن الشيخ الراحل، وقد ترك لنا تراثا عريقا من المعارف والعوارف، نسأل الله أن يوفقنا لخدمته وأن يمن علينا بكرم إخراجه وإحسان العمل فيه، وعسى أن يمن المولى بالفتح من عنده فنخرج قريبا فهرسة مفصلة لمكتبة الشيخ مهنا ومكتبة بيت الرأس التي تعد ركنا أصيلا في بيت أبي نبهان.