لُقَى أثرية اُكتشفت في سلطنة عُمان تحمـل رموزًا كتابية تعود إلى ما بين 4200 -4500 عام مضــى، وفـقًـــا لتحليــل الكـربــون 14 الـمشــع

لُقَى أثرية اُكتشفت في سلطنة عُمان تحمـل رموزًا كتابية تعود إلى ما بين 4200 -4500 عام مضــى، وفـقًـــا لتحليــل الكـربــون – 14 الـمشــع
م أ. د. أسمهان بنت سعيد الجرو أخصائية دراسات تاريخية – متحـف عُمـان عبـر الزمان   في موسمها الأثري السابع، عام 1993م، سجّلت البعثة الفرنسية–الإيطالية في موقع رأس الجنز، الواقع عند مدخل بحر العرب على بُعد 10 كم جنوب ميناء رأس الحد بولاية صور بمحافظة جنوب الشرقية، مجموعة من الاكتشافات الأثرية البارزة. إلى جانب المنشآت المعمارية واللُّقى الأثرية المتنوعة، عُثر على عددٍ من الأختام التجارية، بعضها مَحَلِّي الصنع، والآخر مستورد من منطقة وادي السند، إلا أن أبرز الاكتشافات تَمَثّلَ في العثور على خَتْميْن صغيريْن داخل إحدى غرف المنزل رقم 8، وقد صُنعا محليًا من حجر الكلورايت المعروف محليًا بـ “الحجر الصابوني”، ويتميزان بنقوش تحمل رموزًا كتابية عربية – ساميّة. الخَتْم الأول ذو شكل بيضاوي، يحتوي على أربعة رموز كتابية، ويبلغ قياسه (15.8 × 18.3 مم)، وسمكه (8.4 مم). أما الخَتْم الثاني فهو مربع الشكل ذو زوايا دائرية، ويبلغ قياسه (19.2 × 18.3 مم)، وسمكه (8.3 مم)، وقد نُقشت عليه ثلاثة رموز سامية مثيرة للاهتمام (انظر الشكل 1). استنادًا إلى تحليل الكربون المشع (C14) قُدِّرَت فترة هذه الأختام ما بين2500  – 2200 قبل الميلاد، تمكنت البعثة الأثرية من التعرف على حرفين من حروف الخَتْم الأول، هما حرفا: “الكاف”    كُتبا في الخَتْمين، وحرف “العين”   ظهر في الخَتْم الأول، غير أنّ الرموز الأخرى لم تُفَكّ شفرتها في حينه (Cleuziou et al., 1994: 460)؛ أي أن عمرهما ما بين 4200 – 4500 عام مضى. وبعد أن وفقني الله في فكّ شفرة نقوش المُسند العُماني الجنوبي – الظفاري التي وصل عددها إلى الآلاف، تمكّنت من التعرف على  تلك الحروف. أحد الحروف عبارة عن خطّيْن متوازييْن، يظهران في الختمين باتّجاه مختلف  ، من قراءتي للنقوش، اتضح لي أنه الحرف السّاكن “طاء” في مرحلته المبكرة، فهو قريب الشبه من حرف الطّاء في المسند اليمني  . ورد هذا الحرف في عددٍ كبيرٍ من نقوش ظفار كصورةٍ من صور حرف “الطاء”، مثال: (KMB 36, KMC 5, KMD 148) (Shahri and King 1991-1992). رمز آخر في الخَتْم الأوّل عبارة عن نقطة ، تقع بين حَرْفَيْ “الطاء” و”الكاف”، يتكرّر هذا الرّمز في نقوش ظفار كصورةٍ من صُوَر حرف “النون”، مثال: (KMB 36; KMD 212,19)، كما أنه يشبه “النون” في النقوش الثّموديّة من حيث البنية الشكلية والقيمة الصوتية (King 1990: Fig. 6). الخَتْم الثاني: يحمل ثلاثة رموز، اثنان منهما تم رصدهما في الخَتْم الأول، يظل حرفًا واحدًا مختلفًا، تعرَّفنا عليه بسبب وجوده في نقوش ظفار فهو صورة من صُوَر حرف “الباء” وقد كُتب باتّجاه عكسيّ. (KMD 180). أعربت البعثة الفرنسية–الإيطالية في دراستها العلمية عن إعجابها البالغ بالدقة العالية والأسلوب الاحترافي الذي كُتبت به الرموز الكتابية على الأختام الصغيرة، مشيرةً إلى أن عملية النحت تمت باستخدام أداة دقيقة لا يتجاوز قطرها 2 مم، وهي تقنية لم تُسجّل من قبل في المنطقة. وقد أوردت الدراسة أن: “هذه التقنية تظهر لأول مرة في عُمان خلال الألف الثالث قبل الميلاد” (Cleuziou et al., 1994: 460–462). وقد خلصت الدراسة إلى نتيجةٍ بالغةِ الأهمية، مفادها: “على المرء أن يعترف بوجود مجموعة من الرموز السامِيَّة استخدمت منذ عهد بعيد في شبه الجزيرة العربية، يبدو أنها كانت مصدر إلهام لمخترع الأبجدية العربية” (Cleuziou et al., 1994: 460–462). تمثّل هذه الشهادة واحدة من أصدق وأهم الإشارات العلمية التي صدرت عن نخبة من أبرز المتخصصين في اللغات السامِيَّة، ممن شاركوا في إعداد هذه الدراسة. الدلالات الاقتصادية للرموز الكتابية في أختام رأس الجنز: نظرًا لأننا بصدد أختام تجارية وُجدت في موقع “رأس الجنز” والمشهور بصناعة سفن “مجان”، والمجاور لأشهر ميناء لمملكة “مجان” هو ميناء “رأس الحد”، فقد راودني تساؤل حول احتمال وجود علاقة بين هذه الرموز التي نُقشت على أختام تجارية وبين صادرات مملكة مجان (عُمان القديمة) إلى بلاد الرافدين، والتي وثقتها النصوص المسمارية (البدر 1978: 56)؛ (Leemans 1960: 68)، وبناءً على معرفتي التفصيلية بالعلاقة التجارية المنتظمة بين مجان وبلاد الرافدين في الألف الثالث قبل الميلاد، رَجّحْتُ أن تكون هذه الرموز تمثل الأصوات الأولى لأسماء أشهر السلع المصدّرة من مجان إلى بلاد الرافدين. حرف “الباء”: يشير إلى البصل أو البوص؛ أي (القصب) الذي يُعد من أبرز واردات بلاد الرافدين. حرف”العين”: يرمز إلى عيون السمك، وهو تعبير مجازي يشير إلى اللؤلؤ في الكتابات المسمارية، والذي يُعد من أهم صادرات “مجان”. حرف “الكاف”: يرمز إلى الكحل أحد السلع التجميلية الفاخرة. حرف “الطاء”: يدل على الطِّيب أو اللبان، الذي أكدت مباخر “رأس الجنز” على استخدامه في الطقوس الدينية والاجتماعية منذ تلك الحقبة. حرف “النون”: يُعبِّر عن النحاس، المعدن النفيس الذي اشتهرت به مجان، والأكثر طلبًا لملوك بلاد الرافدين. أسماء هذه السلع ذات جذور عربية صرفة، موجودة بنفس الاسم والدلالة في كتابات أغلب الشعوب السامية (حازم 2008: 83، 284، 326، 260، 376). لا تقتصر الرموز الكتابية المكتشفة في عُمان على موقع “رأس الجنز” وَحْدَهُ؛ إذ كشفت البعثات الأثرية عن نمطٍ آخر من الحروف في حصون “بات” بولاية عبري بمحافظة الظاهرة، وقبور “شافع” بولاية إزكي بمحافظة الداخلية، ومواقع أثرية متفرقة أخرى في أنحاء سلطنة عُمان. وقد تمثلت هذه الرموز في نقوش ذات طابع ديني، من أبرزها حرف “الحاء” ، الذي يظهر في أشكال واتجاهات متعددة، تُشبه أشعة الشمس، وهي صورة معروفة -أيضًا- في نقوش ظفار. يُعد هذا الحرف في هذا السياق رمزًا إلهيًا، ويُعتقد أن الغرض من نقشه على المنشآت المعمارية كان طلب الحماية الإلهية والتبرّك. كُتبت هذه الرموز أحيانًا منفردة، وأحيانًا أخرى بشكل متشابك فيمـــــــــــــــا يُعـــــــرف بالـ”مونوجـــــــــــرام (Monogram)، وجميعها تعود إلى عصر مملكة مجان في الألف الثالث قبل الميلاد (Thornton et al., 2016: 152) . اللافت أن هذه الرموز كُتبت بالخـط الظفاري ذاته الذي استخدم في كتابة الرموز على أختــام “رأس الجنز”، مـا يعـــــــزّز فرضية انتشار وتداول هذا النظام الكتابي في مناطق واسعة من جنوب شبه الجزيرة العربية منذ أكثر من 4500 سنة مضت. تنبأ المؤرخ الفرنــــــــسي “جيمس جــــــــي. فيفــــــــــــرييــــــــــــــه” (James G. Février) عام 1948 بإمكانية إعادة النظر في التاريخ المُفترض لنشأة الخط العربي الجنوبي القديم (المُسند اليمني)، والذي كان يُعتقد على نطاق واسع بين علماء السامِيَّات أنه يعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد؛ أي قبل حوالي 2800 سنة مضت؛ ففي كتابه “تاريخ الكتابة”، عبّر (فيفرييه) عن شكِّهِ في هذا التقدير، مشيرًا إلى: “أن جنوب شبه الجزيرة العربية كانت آنذاك بمنزلة “أرض بكر” لم تُستكشف بعد بشكل كافٍ. وتساءل: ألم يكن من الممكن أن تُكتشف فيها نقوش أقدم بكثير لو أن الحفريات الأثرية أُجريت فيها بالمنهجية والإصرار نفسيهما اللذين طُبِّقا في سوريا وفلسطين خلال العقود السابقة؟” (Février: 1959: 289)؛  (Cleuziou et al., 1994: 465)، وقد أثبتت الاكتشافات الأثرية اللاحقة، صحة توقعاته. إن هذه الشهادة القيّمة تستحق التَّأمُّل العميق؛ حيث تقدم إجابة حاسمة لإحدى القضايا الجوهرية التي طالما حيّرت الأمم، وهي تحديد المهد الأول للشعب السامي. والإجابة الواضحة هي أن المهد الأول للسامِيَّة كان في جنوب شبه الجزيرة العربية، ولا توجد كتابة سامِيَّة تاريخها يسبق هذا التاريخ. المصادر والمراجع: العربية:
  1. البدر، سليمان سعدون، منطقة الخليج العربي خلال الألفين الثاني والأول قبل الميلاد، دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم، الكويت، 1978، ص، 71.
  2. حازم علي كمال الدين، 2008، معجم مفردات المشترك السامي في اللغة العربية، مكتبة الآداب، القاهرة.
الأجنبية:
  1. Cleuziou Serge, Gnoli Gherardo, Robin Christian Julien, Tosi Maurizio. Cachets inscrits de la fin du IIIe millénaire av. notre ère à Ra’s al-Junays, sultanat d’Oman (note d’information). In: Comptes rendus des séances de l’Académie des Inscriptions et Belles-Lettres, 138 année, 2, 1994. pp. 453-468.
  2. Leemans, W.F., 1960. Foreign Trade in Old Babylonian Period, Leiden, Brill, p. 56.
  3. Shahri, A.M & King, G.M.H. 1991-1992. The Dhofar Epigraphic Project A Description of the Inscriptions Recorded (unpublished).
  4. Thornton, Christopher P.; Charlotte M. Cable; and Gregory L. Posschl. 2016. The Bronze Age Towers at Bat, Sultanate of Oman: Research by the Bat Archaeological Project, 2007-12’, University of Pennsylvania Press, University of Pennsylvania Museum of Archaeology and Anthropology.
 
Related Posts