حوار مع الأستاذ الدكتور نائل حنون حـول موضــــوعـات مختلفــة تتصل بالتراث والثقافة والفكر

حوار مع الأستاذ الدكتور نائل حنون حـول موضــــوعـات مختلفــة تتصل بالتراث والثقافة والفكر
محمد بن علي الإسماعيلي   كانت نشأة الأستاذ الدكتور نائل حنون، الأكاديمي والكاتب والمترجم والباحث بمركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدراسات العربية والإنسانية في جامعة نزوى، الأولى في جنوب العراق، وبالتحديد في محافظة ميسان التي تحمل اسم المملكة القديمة التي قامت على أرضها في القرن الثالث قبل الميلاد. وهذه المحافظة تقع شمال البصرة، وتشتهر بأهوارها، وبزراعة الرز والنخيل. ويتوسطها نهر دجلة مع بعض روافده الصغيرة في الشرق وفروعه في الغرب. سيرة علمية وعملية غزيرة يتمتع بها ضيف حوارنا؛ من حيث نشأته الاجتماعية والتعليمية والمهنية، إلى جانب مؤلفاته ودراساته ومشاريعه التي أنجزها؛ إذ ترك الدكتور نائل محافظة ميسان بعد إنهاء الدراسة الثانوية (الدبلوم العام)، وانتقل إلى بغداد ليواصل دراسته الجامعية في عام 1968م. لقد تخصص في علم الآثار وحصل على البكالوريوس فيه، ثم درجة الماجستير في التخصص نفسه عام 1976م. مارس بعدها العمل في المتاحف، وبدأ في التنقيب الأثري في حوض حمرين (شرقي العراق) وبابل، وفيما بعد في حوض نهر الفرات (غربي العراق) وفي المنطقة الشمالية من العراق، وأخيرًا في جنوبي العراق (محافظة الديوانية). ولقد أسفر التنقيب في حوض حمرين (تَل السيب) عن اكتشاف مدينة ميترناة القديمة التي ذُكِرَت كثيرًا في النصوص المسمارية؛ ولكنها كانت مجهولة الموقع. أما في محافظة الديوانية فقد تم اكتشاف معالم مدينة مَرَد القديمة في تَل الصدوم. وكان عالم الآثار والمسماريات ثورو – دانجن قد حدد موقع المدينة بشكلٍ صحيح، قبل عقود من الزمن، بالاستدلال من مضمون النصوص المسمارية؛ لكن لم يَجْرِ التنقيب في الموقع من قبل، بل أُجْرِيَ هذا التنقيب في هذا الموقع بعد انتقاله إلى الجامعة في عام 1988م. التحق في عام 1981م بجامعة تورنتو في كندا ليحصل منها على درجتي الماجستير والدكتوراه في النصوص المسمارية، وتحديدًا في اللغة الأكادية وآدابها. ثم اشتغل بالتدريس في جامعة القادسية؛ حتى تولى عمادة كلية الآداب فيها في عام 1995م، وفي عام 1997م حصل على مرتبة الأستاذية. بعدها انتقل إلى عمادة كلية التربية في جامعة واسط في عام 2001م حتى عام 2003م. وبعد احتلال العراق من قِبَلِ الجيش الأمريكي انتقل لفترةٍ وجيزة إلى جامعة الكوفة، ثم غادر العراق ليلتحق بجامعة دمشق حتى نهاية عام 2012م، وحينها عاد إلى جامعة القادسية حتى مجيئه إلى سلطنة عُمان عام 2018م. في تلك السنوات من العمل منذ عام 1978م، حرص على جمع التخصصيْن الرئيسيْن المهميْن في علم الآثار، وهما: التنقيب والاستكشاف الأثري ودراسة اللغات القديمة والنصوص المسمارية. وكانت قناعته دومًا أنه لا بد من جمع التخصصيْن لتوسيع الأفق المعرفي بالحضارة القديمة، والنظر إليها وفهمها من طريق الدليليْن المادي والكتابي. واتضح هذا التوجه ليس في حقل العمل فحسب، إنما ظهر واضحًا في موضوعات بحوثه وكتبه المنشورة؛ إذ بلغ عدد البحوث والدراسات التي أصدرها إلى غاية الآن ستة وتسعين بحثًا، أما الكتب الصادرة فعددها ثمانية عشر، والكتاب التاسع عشر في المطبعة حاليًا، وسوف يصدر في غضون أيام -إن شاء الله-. ويلاحظ من عناوين كتبه أنها تتغاير ما بين علم الآثار واللغات القديمة ونصوصها والدراسات الحضارية. من هذه الكتب: “عقائد ما بعد الموت”، “عقائد الحياة والخِصْب”، “المدافن والمعابد في حضارة بلاد الرافدين القديمة”، “حقيقة السومريين ودراسات أخرى في علم الآثار واللغات القديمة”، “الاستكشاف الأثري من وادي الفرات إلى عُمان”، “نظام التوثيق الآثاري”، “شريعة حمورابي”، “ملحمة جلجامش”، “اللغتان السومرية والأكدية”، “أسطورة الخليقة البابلية”، “عشرون نصًا مسماريًا تاريخيًا وأدبيًا”. ويعمل في الوقت الحاضر على إنجاز مشروعيْن علمييْن كبيريْن، وهما “المعجم العربي الأكادي السومري”، و”موسوعة البلدان القديمة”، وسيصدر كل منهما في مجلدات عدة. إن مجيء الأستاذ الدكتور نائل حنون إلى سلطنة عُمان سيفتح آفاق رحبة للتفتيش في مآثر تراث حضارتها العريقة في مجالات تخصصه؛ فمكتبة البحث العلمي العُمانية بحاجة ماسة إلى مثل هذه الدراسات والبحوث؛ لما لها من أهمية كبرى في اكتشاف كنوز هذه الحضارة وتاريخها الضارب في جذور التاريخ إنسانًا وبنيانًا، وربطها بالتقدم العلمي والتقني المعاصر. لذا كان “للثقافية” هذا الحوار الغني معه، حول موضوعات مختلفة تتصل بالتراث والثقافة والفكر.  كيف تجدون المكتبة العُمانية والموروث الثقافي والحضاري العُماني الخاص بعلم الآثار؛ كون أن سلطنة عُمان ذات حضارة إنسانية عريقة ضاربة في جذور التاريخ؟ هناك إشكالية كبيرة تحدث في البلدان ذات الحضارات العريقة، وتتمثل هذه الإشكالية في عدم تناسب حجم الدراسات والأبحاث المنشورة مع حجم الموروث الثقافي والحضاري الموجود في البلد. وكلما توسعت عملية الاستكشاف والتنقيب الأثري في الأرض توسعت الثغرة الفاصلة بين الاثنين؛ إذ يتأخر لحاق الدراسات والأبحاث عن حجم ما يُكْتَشَف وما ينتظر الاستكشاف. وهذه الإشكالية لا تقتصر على عُمان، وإنما تعاني منها حضارة وادي الرافدين والحضارات الكبرى -أيضًا-. والسبب ضخامة الموروث وشواهد الحضارة القديمة من جهة، وعدم تطور البحث العلمي والتفرغ له وتسريع وتيرته من جهة أخرى. يضاف إلى هذا ضعف التوثيق، ولا نقصد بالتوثيق هنا الأرشفة المكتبية للمكتشفات الأثرية، وإنما التوثيق المتحرك الذي يُكَوِّن رصيد المعلومات الصالح لتشكيل بنية البحث العلمي. الكشف عن الموروث الحضاري يأتي من طريق عمل حقلي شاق ومجهد، يتطلب جهدًا بدنيًا وتركيزًا عاليًا. قد يُوَثَّقُ هذا العمل في تقارير وصفية مهنية. لكن المشكلة تكمن في التوقف عند هذا الحد، وعدم مواصلة البحث ورسم الصورة الأوسع من نتائج؛ لتكوين صورةٍ وفهمٍ أوسع وأعمق لجانب من جوانب الحضارة. والهدف نشر المعرفة بحضارة البلاد القديمة وتوصيلها إلى مواطني البلاد.. وَرَثَةِ هذه الحضارة، وأقرب الناس إلى مقوماتها، ثم إلى العالم. ولا يمكن أن تصل هذه المعرفة دون إصدار المنشورات المفهومة والمتعمقة. وهنا يكمن الضعف، ففي بلد عريق غني بالآثار وشواهد الحضارة القديمة مثل عُمان ليس من السهل التنقيب في عددٍ كبير من المواقع. ومع النمو الحضاري وتعرض مواقع كثيرة لتهديدات الزحف العمراني تنهمك الجهة الوطنية المسؤولة عن آثار الحضارة القديمة، وأعني بها وزارة التراث والسياحة، في متابعة عمليات تنقيب واسعة تتصدرها العمليات الإنقاذية. وكلما توسعت هذه العمليات وتحققت النتائج منها زادت الحاجة إلى النشر عنها، مع عدم توافر الوقت والإمكانيات لهذا النشر والبحث العلمي اللازم له. أما البعثات الأجنبية فتقوم بالتنقيب الأثري وتنسحب إلى بلدانها حيث التفرغ العلمي في المؤسسات التي أرسلتها، وحيث إمكانيات البحث العلمي، ولكن ليس المُوجِّه تعريف أهل الحضارة بحضارتهم. ولذلك يكون جواب هذا السؤال -من وجهة نظري-: أن المكتبة العُمانية ما تزال غير قادرة على اللحاق بمكتشفات الحضارة القديمة، وما تزال بعيدة عن تقديم الصُّوَر الأسهل فهمًا عن الحضارة القديمة لأوسع قطاع من القراء.  هل يمكن الحديث عن علم أو مساق -سمِّه ما شئت-، أو استحداث قسم خاص بالآثار العُمانية، وما أبرز الاستكشافات الأثرية التي من الممكن أن تشتغلوا عليها في سلطنة عُمان في المرحلة القادمة، قبل تحقق ذلك؟ لقد أُجْرِيَت في سلطنة عُمان عمليات تنقيب واسعة في عدد كبير من المواقع الأثرية، وتحققت نتائج كثيرة، غنية بالمعلومات عن حضارة عُمان القديمة وإرثها العميق. والآن بات مُستحقًا أن تُجْمَع هذه النتائج في مساق علمي واضح؛ لتكون أساسًا متينًا لعلم آثار عُمان. ويرتكز هذا المساق على طرق البحث العلمي، واتخاذ كل ما نُشِرَ عن عمليات التنقيب مصادرَ له؛ فضلًا عن المراجع المتوافرة وجميع مراجع علم الآثار والحضارات القديمة. ومن ضمن الخطوات الأولى المطلوبة لتحقيق هذا الهدف جمع كل ما نُشِرَ عن آثار عُمان باللغات الأجنبية، والعمل على ترجمته؛ لتوسيع القاعدة المعرفية لرسم صورة الحضارة القديمة. ويُمكِن لهذا العمل أن يؤدي إلى تكوين خريطة أثرية توضح ما اكتُشِف، وتحديد ما ينبغي التخطيط لاكتشافه والخطط العملية لذلك.  كيف تقرؤون وتترجمون تلك النقوش والكتابات الأثرية القديمة الموجودة في جبال سلطنة عُمان وكهوفها؛ وما الطريقة التي تقترحونها للحفاظ على سلامتها؟ تمهيدًا للإجابة عن هذا السؤال، ينبغي أن نعرف أولًا هل أن ما قام على أرض عُمان في العصور القديمة هو حضارة متطورة أم مجرد ثقافة؛ بحسب المصطلحات الأثرية؟ ثم هل شهدت العصور القديمة في عُمان استعمال الكتابة، وخلَّفت لنا نصوصًا مدونة؟ ممَّا لا خلاف عليه أن سلطنة عُمان غنية، تضم عددًا كبيرًا من المواقع الأثرية، وتكتنز أرضها خزينًا كبيرًا من القِطَع والبقايا الأثرية التي خلفتها العصور القديمة. ولا يُعَدُّ هذا معيارًا حاسمًا على وجود حضارة؛ ذلك أن علماء الأنثروبولوجيا والآثار يميزون بين مصطلحيْن، وهمــــــــــــا “الثقــــــــــــــــــــــــــافــــــــــــة” (Culture)، و”الحضــــــــــــــارة” (Civilization)؛ فالثقافة، بحسب المفهوم العلمي: مجموع ما تمتلكه مجموعة بشرية من تراث مادي وغير مادي وممارسات وعادات، ولأن لكل مجتمع بشري نتاجًا ماديًّا وغير مادي؛ فإن الثقافة تكون سِمَةً لكل مجتمع بشري مهما كانت درجة تطوره، أما “الحضارة”: فمرحلة متطورة، لا تكون إلا بارتقاء المجتمع البشري بثقافته الموجودة إلى مستويات متميزة، لا يُتاح لكل مجتمع الوصول إليها. هنا علينا أن نقرر ما إذا كان ما قام على أرض عُمان في العصور القديمة “ثقافة” أم “حضارة”؟ اختلفت الآراء عن المقومات التي يجب توافرها للإقرار بوجود حضارة قديمة في بلد ما، وبعد استخراج مختلف الآراء لعلماء الأنثروبولوجيا والآثار، استنتجنا تسعة معايير ثابتة يُبنى عليها وجود حضارة في بلد ما أو عدم وجودها. وطرحنا هذه المعايير التسعة في ندوة “إزكي عبر التاريخ”، التي أقامها المنتدى الأدبي في ولاية إزكي (11 – 12 سبتمبر 2023م)، ونُشِرَت بحوثها في كتاب: إزكي عبر التاريخ، (مسقط، 2024م). المعايير التسعة التي يستدل بها على وجود الحضارة: تعدين النحاس وتصنيع البرونز. تشييد الصروح والمباني الكبرى. ظهور التكوين الاجتماعي الطبقي. تقسيم العمل وظهور التخصص الحِرَفي. تطور التجارة بعيدة المدى والتواصل مع الحضارات الأخرى. تطور النظام الحربي وتنظيم الجيوش. التقدم المعرفي في مجالات: العمارة والرياضيات والفلك والحسابات التقويمية. نشوء المدن. التوصل إلى الكتابة وممارسة التدوين. إن توافر هذه المعايير هو الذي يتقرر بموجبه وجود أي حضارة قديمة، غير أن الافتقار إلى معيار واحد أو اثنين من هذه المعايير لا ينقض وجود الحضارة؛ فحضارة مصر القديمة من الحضارات الرائدة والأصيلة في تاريخ البشرية، على الرغم من أنها تأخرت في نشوء المدن؛ إذ كانت مصر بلادًا لقُرى وبلدات تبادل تجاري دون الوصول إلى مستوى المدن باستثناء العواصم المحلية في عصر ما قبل الأسرات وفي معظم تاريخها المبكر، بل حتى إن كبار علماء المصريات يذهبون إلى ترجيح عدم ظهور المدن بمفهومها الكامل في مصر القديمة حتى عهد الأسرة الثامنة عشرة، كما أن حضارة الإنكا في بيرو قامت دون التوصل إلى ابتكار الكتابة. وعلى الرغم من أن حضارة الأزتك في المكسيك عرفت صناعة النحاس والذهب ولم تتوصل إلى صناعة البرونز، فإنها عُدَّت في مصاف الحضارات الأصيلة في تاريخ البشرية. هنا نأتي على تطبيق المعايير التسعة في سلطنة عُمان؛ لنجد أن ثمانية منها توافرت، ووفَّرت الدليل على قيام الحضارة القديمة على أرضها، ولم يؤثر غياب المعيار التاسع، وهو الكتابة والتدوين، على وجود الحضارة. أما توثيق الحضارة القديمة في عُمان والمعايير الثمانية فقد جاء من طريق التنقيب الأثري هنا والنصوص المسمارية في وادي الرافدين؛ ولذلك لم تظهر نصوص كتابية أثرية من العصور القديمة باستثناء النصوص العربية المتأخرة من عصور الحضارة القديمة. وهناك -أيضًا- نصوص قصيرة متفرقة من عصور الأبجديات. أما ما ينشر في مواضع كثيرة في أرجاء سلطنة عًمان فهي رسوم صخرية لها قيمتها الأثرية والعلمية، لكنها ليست كتابةً بالمعنى الدقيق؛ فهي رسوم تشترك مع الكتابة في توثيق أمور معينة وتوصيل معلومات، وتمثل عنصرًا أثريًا مهمًّا يتوجب التعامل معه وفقًا للخطوات الآتية: أولًا: المحافظة على هذه الرسوم الصخرية وحفظها من الاندثار. ثانيًا: توثيقها بتحديد مواضعها في سلطنة عُمان، واستنساخها وتصويرها. ثالثًا: تكوين رصيد معلوماتي موثق عنها تمهيدًا لدراستها بشكل كامل. رابعًا: معاملة الرسوم الصخرية باعتبارها عنصرًا أثريًا حضاريًا مهمًا من شواهد الماضي، مع تجنب تشويه حقيقتها، والقول إنها كتابة مكونة من حروف أبجدية، وما يشبه هذا الكلام مما يحرف حقيقة حضارة عُمان القديمة.  حضارة عُمان القديمة بمُدُنِها ومنجزاتها التاريخية ومآثر احتكاكها بشعوب عريقة بحاجة إلى تنقيب وبحث؛ أي ربما يستدعي الأمر مجهودًا مؤسسيًّا متخصصًا وكبيرًا. ما توصياتكم في هذا السياق؟ شهدت سلطنة عُمان حركةً واسعةً في التنقيب الأثري، سواءً من قِبَلِ بعثات وزارة التراث والسياحة أم البعثات الأثرية والأجنبية. والبعثات الوطنية تُتابع عمليات التنقيب الإنقاذية، وهذا يمثل جهدًا كبيرًا بحُكم اتساع التطور العمراني في سلطنة عُمان؛ إما من طريق توسع المدن والمناطق السكنية ووصولها إلى المواقع الأثرية، أو بِشَق الطرق وتشييد السدود، وهي العملية التي تتطلب إزالة المواقع الأثرية التي تعترضها، أو غَمْرها بخزانات السدود. ولا يقتصر هذا الجهد على ذلك، ولكن يشمل إشراف الوزارة على جميع عمليات التنقيب التي تقوم بها البعثات الأجنبية والمشاركة فيها -أيضًا-. ثم إن الوزارة تتابع إقامة المعارض والإشراف على المتاحف وإعداد التقارير والبحوث ونشرها، وهذه المهمات الجسيمة تتطلب إمكانيات بشرية وعلمية وفنية هائلة، والبعثات الأثرية الأجنبية تأتي للتنقيب في مواقع أثرية متفرقة يهمها استكشافها في المواسم التي تقررها بحسب خطط عملها والتزاماتها في بلدانها. والمطلوب أوسع من هذا بكثير، فما التوصيات التي يمكن تقديمها بهذا الصدد؟ في الحقيقة أقول إن وزارة التراث والسياحة أكثر الجهات إدراكًا لهذا الواقع، ولديها رؤيتها في تطوير العمل على الاستكشاف الأثري، واستجلاء مظاهر الحضارة القديمة في سلطنة عُمان. وقد وُفِّقَت الوزارة في عقد ورشة خاصة بتطوير الواقع الأثري، وهي: “ورشة العصف الذهني لقطاع الآثار” في 28 مايو 2023م. وقد شارك في هذه الورشة ممثلون عن: وزارة التراث والسياحة، وجامعة نزوى، وجامعة السلطان قابوس، وكلية عُمان للسياحة. وكانت من بين أهم التوصيات التي خرجت بها الورشة: أن تكون المتاحف شريكا استراتيجيًّا في أعمال التنقيب الأثري وترميم المقتنيات. ومن البديهي أن تشمل هذه التوصية الجامعات والمراكز العلمية فيها. طبقًا مع توافر مُنَقِّبين أثريين معروفين من ذوي الخبرة الواسعة والمسهمين في الأعمال الأثرية الحقلية، وتحقيق النتائج المهمة فيها، مع تميزهم بالنشر العلمي والثقافي عن أعمالهم الميدانية. وإذا أردنا أن نوصي بشيء هنا فبالتأكيد توصية ورشة العصف الذهني لقطاع الآثار المشار إليها، التي أدارتها وزارة التراث والسياحة في سلطنة عُمان. وتوصيتنا أن تسعى المؤسسات المشار إليها إلى تهيئة الإمكانيات اللازمة لتشارك الوزارة في جهودها، وتحمل معها مهمة الكشف عن معالم حضارة عُمان القديمة، وتقديم الدراسات والبحوث عنها، مع تعميم الثقافة الخاصة بها. ولقد قامت جامعة نزوى، ممثلة بمركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدراسات العربية والإنسانية، بالتحضير للقيام بإسهام فعّال في العمل الميداني لإنقاذ المواقع الأثرية المهددة بالاندثار، وكذلك التخطيط لمشاركة مديرية المسوحات والتنقيبات الأثرية في وزارة التراث والسياحة في مشاريع استراتيجية لتحقيق استكشافات أثرية مهمة. فضلًا عن هذا تُحَضِّر جامعة نزوى لإقامة سلسلة ورش تدريبية تخصصية؛ لتعزيز العمل الأثري في سلطنة عُمان. ومما يساعد جامعة نزوى في القيام بهذا الدور وجود مشروع موسوعة علمية ضخمة في مجال الآثار والحضارات القديمة والتنقيب الأثري. ومما تسعى إليه هذه الموسوعة تحديد مواقع المدن القديمة والعمل على اكتشافها. وبهذا الصدد أَمْكَنَ تحديد ثلاث مدن عُمانية قديمة: (مَجان، عاصمة البلاد التي حملت اسمها في الألف الثالث قبل الميلاد، إزكي، وجُبن)، لم يسبق أن اكتشف موقع أي منها من قبل. وسيكون إصدار هذه الموسوعة من جامعة نزوى في المستقبل القريب داعمًا رئيسًا لأعمال التنقيب الأثري في سلطنة عُمان، وفي عموم منطقة الشرق الأدنى، فضلًا عن دورها في تطوير علم الآثار أساسًا.   ما أثر تبنِّي هذه المشاريع الكبرى على المشهد الثقافي العُماني المعني بعلم الآثار؟ يعتمد المشهد الثقافي العُماني المعني بعلم الآثار على نوعين من المشاريع الوطنية الكبرى، هما: الأول عملي ميداني يتضمن مشاريع تنقيب أثري بأهداف محددة، مثل: الكشف عن المدن القديمة، وتجاوز العمل في التنقيب عن المستوطنات المتفرقة الذي تتولاه حاليًا البعثات الأجنبية. ولا يقتصر هذا النوع من المشاريع الكبرى على الكشف عن مواقع المدن القديمة واستجلاء بقاياها وإعادة رسم صورها القديمة، ولكن يشمل تقديم دراسات وبحوث مناسبة لأهمية ما سيكتشف. ويجب أن نذكر أنّ من أهم مصادرنا في تحقيق هذه المشاريع هي النصوص المُدَوَّنة القديمة، وعلى رأسها النصوص المسمارية المُدَوَّنة باللغتين السومرية والأكادية، التي عرفنا منها اسم مَجان وإزكي وبلاد قاديي ومدينة جُبن التي لم يسمع بها أحد من قبل. أما النوع الآخر فيشمل مشاريع بحثية كبرى، يتعدى نطاقها الجانب النظري للبحوث؛ لتوفّر القاعـــدة المعـــــــــرفية الأســــــــــاسية للمشاريع من النوع الأول. ونورد هنا -على سبيل المثال- المشروعين العلميين الكبيرين، اللذين يجري العمل عليهما حاليًا في مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي في جامعة نزوى. وهذان المشروعان هما: “المعجم العربي الأكادي السومري”، و “موسوعة البلدان القديمة”. مشروع المعجم سوف يبدأ في الصدور ابتداءً من العام الحالي، ومن المتوقع أن يبلغ عدد مجلداته عشرة. هذا المعجم الأول من نوعه عالميًا الذي يجمع اللغتين السومرية والأكادية معًا؛ علمًا أنه لم يسبق أن صدر للغة الأكادية سوى معجمين بمنهج مختلف أحدهما من جامعة شيكاغو والآخر في ألمانيا، مع معجم مختصر جدًا في بريطانيا. أما اللغة السومرية فلم يسبق أن صدر معجم كامل لها على مستوى العالم؛ لذا سَيُمَكِّن هذا المعجم من قراءة النصوص المسمارية بقدر كبير من السهولة، كما أنه سيقدم معلومات واسعة جديدة عن اللغة العربية وجذورها وتاريخها المستتر فيما سبق تدوينها من عصور. والمشروع الثاني (موسوعة البلدان القديمة)، يتألف من مجلدات عدَّة، تتضمن نحو خمسة آلاف مدخل، تشمل جميع المدن القديمة المذكورة في النصوص المسمارية التي تنتشر في جميع أرجاء الشرق الأدنى، مع تحديد ما لم يكتشف منها باستثناء نحو 300 مدينة ما تزال مواقعها تحت البحث، ومن المحتمل أن بعضها في عُمان. فضلًا عن هذا تشرح هذه الموسوعة عمليات التنقيب التي جرت في مواقع ما اكتشف من تلك المدن، وكذلك المواقع الأثرية التي لم يتم التوصل إلى أسمائها القديمة.  كيف ترون مستقبل علم الآثار والتنقيب في سلطنة عُمان، مع الأخذ بعين الاعتبار القدرة الفائقة للتكنولوجيا والثورة الصناعية للنهوض بهذا العلم؟ لَدَيَّ ثقة أن المستقبل في سلطنة عُمان سيشهد المزيد من الاكتشافات الأثرية المهمة، التي ستبرز معالم جديدة من الحضارة القديمة. والسؤال هنا كيف يكون التحضير لهذا التوسُّع والتعمق في الاستكشاف الأثري؟ قد تكون في إجابتي بعض الغرابة، ولكن واقع العمل الأثري يتصف بالعمل اليدوي والأدوات البسيطة، مع اعتماد كبير على خبرة المُنَقِّب وحدْسه وقدرته على التوثيق. قد تدخل التطورات التكنولوجية في أدوات المسح والرسم الهندسي، أو في تطور آلات التصوير، واستعمال التصوير الجوي بواسطة المُسَيَّرات، ولكن في التنقيب لا يمكن تعويض المجارف اليدوية الصغيرة ومعاول التنقيب الدقيقة. ويمكن تأسيس مختبرات حديثة متطورة لمعالجة القطع الأثرية، لكن مهارة الحفار في استخراج القطع الأثرية دون إلحاق أذى بها تبقى الأصل في التنقيب. ويجب الإشارة إلى أن وسائل العرض المتحفي في تطور وزيادة في استعمال التكنولوجيا الحديثة، ولكن استعمالها يأتي بعد اكتشاف اللُّقى الأثرية واستخراجها بكل تأنٍّ وعناية.  ما مدى الحاجة والقدرة في ذات الوقت لتحقيق الاستفادة القصوى من أدوات التحديث والمعاصرة للموازنة بين أصالة تراث علم الآثار، وتقانة العلوم الحديثة؟ الحاجة القصوى لتطوير علم آثار عُمان، قبل التقانات الحديثة، هي للكوادر الوطنية المتمكنة والشغوفة بهذا التخصص، والمدركة بأعلى درجات الوعي بأهمية حضارة البلاد القديمة. وأنا شخصيًا أتمنى وجود كوادر مبدعة قادرة على الابتكار في هذا المجال من المعرفة، دون انتظار مجيء المعلومات من البعثات الأجنبية التي لا تملك القدرة الكبيرة على التدريب والتعليم، ولا أبالغ إذا قلت إن معظمها حتى لا تملك الرغبة في ذلك. لقد عملت وعشت مع بعثات أجنبية وأنا على وعي بما أقول، ولا أريد التوسع هنا بهذا الحديث. وإذا طُرِحَ سؤال عن كيفية الاستفادة من أدوات التحديث والمعاصرة في تطوير الكوادر الوطنية يمكن اختصار الإجابة على النحو الآتي: 1- إقامة ورش تدريبية تطبيقية واضحة لأهداف متعددة المجالات ضمن التخصص. وبهذا الصدد تُحَضِّر جامعة نزوى حاليًا سبع ورشات في مواضيع مختلفة، تختصر كل منها أمدًا طويلًا من الدراسة النظرية. وجميع هذه الورشات جاهزة ومستكملة المستلزمات وستوضع تحت تصرُّف وزارة التراث والسياحة. 2- تهيئة رصيد رصين من المصادر والمراجع، وترجمة ما يحتاج إلى ترجمة منها؛ لتكون تحت يد الكوادر الوطنية الجديدة. وهذا الرصيد أفضل ضمانةً لاستكمال العمل الحقلي الأثري بالبحوث والدراسات الوافية والصالحة للمعرفة والثقافة الوطنية. 3- يجب ألا يعني ما تقدم إغلاق الباب أمام التقانات الحديثة واستعمالها في علم آثار عُمان؛ بل يجب أن نُحدد آفاق استعمال هذه التقانات؛ فهي لن تنوب عن العمل البشري مهما بلغت درجة تطورها. ولكنها يمكن أن تسند جوانب معينة من العمل العلمي، مثل: الأعمال الهندسية من رسوم وتوثيق، وكذلك فحص القطع الأثرية والمواد العضوية، وتحديد تواريخها، والكشف عن الأمراض في العصور القديمة بفحص العظام. ويمكن لعلوم البيئة والوسائل العلمية، مثل: المجاهر وعلوم الفلك والفضاء، وعلمي الحيوان والنبات القديمين أن توسع من المعلومات المستخلصة التي تعين المختصين في الآثار؛ بعملهم لفهم البيئة الأثرية وجوانب الحياة القديمة. بل حتى يمكن لعلم التحقيقات الجنائية وتقنياته الحديثة أن يساعد في العمل الأثري. بعبارة أخرى إنّ طيفًا واسعًا من العلوم الحديثة وتقنياتها المتطورة يمكن أن تقوم بدور العلوم المساعدة في علم الآثار.  
Related Posts