
بين عدد وآخر، تحضيرٌ وإعْداد، ومتابعة واستكتاب، وبحث وتفتيش، وإعادة نظر فيما جُمع أو يُراد له أنْ يُجمع، وفيما أُرْجِئ، أو يُرْجى له أن يُنشر، ثم مراجعة حثيثة إثر مراجعة، ومتابعة كثيفة لا تخلو أحيانا من معاتبة.. كلمة هنا، وحرف هناك.. تعليق في غير محله، وآخر ينتظر دوره، صورة مفقودة، وأخرى حقوقها محفوظة.. جملة حسّاسة، ومفردة قلقة في موضعها، وتصميم يفتعل الجديد، ويناور في القديم، ويختصر مرة ويبدع أخرى، ويضعف تارة، ويقوى تارات.. وهكذا تستمر العملية لتحقيق تلك الأمنيّة. باختصار شديد العمل الصحفي والإعلامي ليس سهلا كما يظن كثير من الناس، ولا هو بالعجينة التي ندخلها فرن الإعداد والتحضير لتخرج للناس كما نريد ويريدون. ومن لم يتعلم الصبر على هذه الصنعة، وتحَمُّل النقد، والقيل والقال، فلا يصلح أبدا أنْ يَلِيَها، بل من فاته ذلك فقد فاته حظ عظيم -لا ريب- من ممكنات النجاح بها، وفرّط في سر مهم من أسرار التمكن منها.
في مسيرة “الثقافية” واجهنا ونواجه كثيرا من ذلك، لكننا نصرُّ دائما وأبدا على المضي قدما رغم الإمكانات المعروفة، ونتوخّى حسن الظن بنا. يشفع لنا محبو المجلة، الذين ينظرون إلينا بعين الرضا، ولا يكاد يسلم عمل -ولو بلغ ما بلغ؛ دقة وإتقانا- من النقد أو الثَّلْب؛ فقد أبى الله إلا أن يتم النور لكتابه العزيز.
في عددنا الجديد نفرد مساحة جديدة لـ “قلعة التاريخ”، التي عوّدتنا المشاركة، ولم تبخل علينا من قبل، ونحن أوفياء لها، وفاءها للمجلة. وقبل ذلك وبعده تتوزع المقالات والدراسات والاستطلاعات والحوارات، وتتناثر الخواطر، وتتسابق المشاركات؛ لتقدم عددا جديدا، بنَفَسٍ ولون جديدين. افتتحنا العدد بحوار مع رئيس تحرير “الثقافية” السابق، استعرضنا معه تجربته الغنية والحافلة في عالم الصحافة والإعلام والنشر، والتمسنا منه وجهة نظره، ورأيه، وموقفه حول بعض ما يرتبط بتاريخنا العماني المجيد من جوانب، واستشرفنا معه المستقبل الباسم، وما يعلقه هو عليه من آمال طوال عراض. وعرّفنا في العدد بشخصيات مختلفة، وقبل ذلك وبعده أفردنا مساحة للحديث عن ماضينا الجميل.. عن أسراره وحكاياته، وعن تناغمه مع الحاضر، وعن الزاد الذي حمَله لنا الأسلاف؛ ليعيننا على مواصلة المضي قدُما في صناعة الحاضر على بصيرة من الأمر، ورسم الخطط لمستقبل واعد مشرق.. تنشد الخير والسلام، لوطن الخير والسلام .. سلطنة عُمان.
الخاتمة:
حين نُذكِّر بالماضي، نريده قوَّة دافعة للحاضر، وحين نُشيد بالحاضر نسْتبقي بذلك الذكر الطيّب والجميل والحسَن للمستقبل. نسْتلهم من ماضينا الدروس والعبر، ونُصَحِّح به الوجهة والمسار إلى الهدف. لا نرْكن لكل ما ورد فيه، ولا نُسلِّم لكثير مما نُقل إلينا منه، بل نفحص ونوازن، وندْرُس ونُحقق ونعاين، هكذا هو شأن العُرَفاء، ثم نقدمه إذا قدمناه، أو نعرض ما نتوخّى أن يُدْرس ويُراجع من جديد، ويُعَاود النظر فيه؛ من قبل الباحثين والمتخصصين. ونتساءل معهم: لماذا كان ما كان؟ ولماذا لم يكن ما كان ينبغي له أن يكون؟!
ماضي أسلافنا كان في الواقع حاضرا لهم يوما ما، وحاضرنا اليوم هو -لا ريب- ماضٍ لما سيأتي بعدنا. نعتز بالماضي نعم.. لأننا نعتزُّ بذواتنا، التي هي امتداد طبيعي لأسلافنا، وننقد الماضي -في الوقت نفسه- أجلْ.. لأننا لا نريد أنْ نقع في أخطاء من تقدمنا. وفي حاضرنا هناك من لا ينفك يعقد مقارنات مستمرة بين الماضي والحاضر.. عقلية المقارنة تلك صنعتها أسباب، وحمَلَتْ عليها بواعثُ مختلفة، ليس المقام لذكرها. ما نريد قوله هو أننا نصنع اليوم بأقوالنا وأفعالنا -أيضًا- ماضيا لمن سيأتي بعدنا؛ فعلينا أنْ نُحْسِنَ إذن صناعته، وأن نُحْكِمَهُ جيدا، وأنْ نكون على قدر عالٍ من الوعي بخطورة ما يُقال أو يكتب -إيجابا أو سلبا-؛ فإن ما نكتبه اليوم هو -لا شك- إرثٌ ستتلقفه الأجيال من بعدنا، شئنا ذلك أم أبينا.
مع هذا وذاك.. ورغم كل ما يُنقَل أو يُقَال.. فلقد ترك لنا السابقون إرثا عظيما، يجب أن نحافظ عليه جيدا، وأن نستثمره كما ينبغي، وأن ننْفِي عنه الزَّيفَ؛ نُصْحًا له وإخلاصا، وعِرْفانا بجميل مَنْ قدمه لنا ووفاء، وأنْ نذكّر به أبناءنا؛ ليكون دافعا لهم نحو بذل المزيد من الجهود المخلصة لخدمة حاضرهم، ورفعة شأن مستقبلهم، وأنْ نأخذ منه الدروس والعِبَر، مسترشدين بمضموناته الهادية، ومضيفين إلى كل ذلك: عملا ناصحا، وجهدا مثابرا، وعطاء متجددا، لنهضة خلاّقة متجددة، تصنع لنا من جديد مجدا ناصعا جديدا، يبقى أمْثولة للأجيال، وأنموذجا صادقا تحْتذيه النساء والرجال؛ تحقيقا للوعد الصادق الذي وعدنا به من قبل السلطان الراحل قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه-، وإيمانا بالعمل المُنْجِز الذي يضطلع به من بعد جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه-، وما ينشده من خيرٍ لسلطنة عُمان.. في حاضرها ومستقبلها.